رمضان شهر الصبر و النصر
فى الإسلام
يهل على المسلمين شهر رمضان المبارك ، شهر الصوم و الصبر و النصر فى الإسلام ، الشهر الذى أنزل فيه القرآن . و قد دأب المسلمون فى مشارق الأرض و مغاربها على إختلاف أوطانهم و ألوانهم و ألسنتهم على الإحتفاء بهذا الشهر الكريم ، و الإحتفال بقدومه فى كل عام منذ خمسة عشر قرنا مضت على إنبلاج فجر الدعوة الإسلامية ، فرمضان ضيف عزيز عليهم جميعا ، و حبيب إلى قلوبهم المؤمنة ، و له قدسيته و مكانته العظيمة فى نفس كل مسلم ، لما حباه الله به من فضائل دينية ، و قيم روحية ، و ما فرض عليهم فيه من عبادات و شعائر ، تطهر الروح ، و تهذب النفس ، و تقوى الإرادة ، و تروض الجسد و تجعله قادرا على التحكم فى شهواته و نزعاته الحيوانية ، كما تقوم السلوك العام و الخاص للفرد و المجتمع معا ، فتشيع الرحمة و المحبة بين الناس ، و يغمرهم الشعور بالأخوة و التضامن فيما بينهم فى السراء و الضراء ، و بفضل هذه الأخلاق السامية يصبح المسلمون فى رحاب هذا الشهر أسرة واحدة كبيرة تضم الملايين من البشر ، يعبدون إلها و احدا يطيعونه فى أوقات محددة فى السر و العلن و لا يشركون به أحدا ، مصداقا لقوله عز و جل :"إن هذه أمتكم أمة واحدة و أنا ربكم فاعبدون " (سورة الأنبياء :92)
و فرض الله صيام شهر رمضان على المسلمين فى السنة الثانية من الهجرة النبوية الشريفة فقال تعالى :" شهر رمضان الذى أنزل فيه القرآن هدى للناس و بينات من الهدى و الفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه و من كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر و لا يريد بكم العسر و لتكملوا العدة و لتكبروا الله على ما هداكم و لعلكم تشكرون " سورة البقرة :185).
و الصيام فى الإسلام كما فصلته هذه الآيات الكريمة ، نظام شامل للحياة يقوم على قواعد محددة تبين كيفية أداء هذه الفريضة و هى الركن الرابع من أركان الدين الإسلامى ، و يذكر الأسباب التى ترفع التكليف عن الإنسان الضعيف فى حالات المرض و السفر و الهرم و المرأة الحائض و الحامل و المرضعة و تعطيه الرخصة الشرعية بالإفطار مصداقا لقوله جل شأنه:" يريد الله بكم اليسر لا يريد بكم العسر " ، " لايكلف الله نفسا إلا وسعها " (سورة البقرة :286).
و الصيام رياضة نفسية تقوى إرادة الإنسان ، و تجعله قادرا على تحمل الشدائد و ما يتعرض له من حرمان و تثبت إيمانه بالله ، يقول رسول الله صلى الله عليه و سلم فى الحديث الذى رواه الإمام الترمذى :" الصوم نصف الصبر و الصبر نصف الإيمان".. و الصوم و الصبر يقيان الإنسان من كثير من الشرور ، و يقطعان دابر الخصام و النزاع بين الناس ، و يؤديان إلى المحبة و المودة بينهم ، يقول صلى الله عليه و سلم :" الصيام جنة فإذا كان أحدكم صائما فلا يرفث و لا يجهل فإن أحد قاتله أو شاتمه فليقل إنى صائم إنى صائم" رواه البخارى .. و الصبر خليقة إن تعودها الإنسان كانت سببا فى نجاحه فى الحياة ، و نصره على الأعداء و قديما قال العرب: "الشجاعة صبر ساعة" و قد عظم الله شهر رمضان و كرمه على سائر شهور السنة بأكثر من فضيله، فهو الشهر الذى أنزل فيه القرآن فقال تعالى:" شهر رمضان الذى أنزل فيه القرآن " و فيه ليلة القدر التى قال سبحانه و تعالى عنها " إنا أنزلناه فى ليلة مباركة إنا كنا منذرين " (سورة الدخان :3) ، و يقول الرسول صلى الله عليه و سلم فى رمضان و ليلة القدر :" قد جاءكم شهر مبارك افترض عليكم صيامه تفتح فيه أبواب الجنة و تغلق فيه أبواب الجحيم و تغل فيه الشياطين فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم " الإمام أحمد فى مسنده .. و من فضائل رمضان على المسلمين أن ضاعف الله لهم فيه الأجر على كل طاعة يؤدونها فيه سواء كانت نافلة أو فريضة ، ففى الحديث القدسى الذى رواه البخارى فى صحيحه ، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :" كل حسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فإنه لى و أنا أجزى به ". و قال عليه الصلاة و السلام:" من صام رمضان إيمانا و إحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" الإمام أحمد فى مسنده .. و للمسلمين فى رمضان ذكريات خالدة لا يمحوها الزمن رغم تطاول القرون ، فقد جرت لهم فيه معارك فاصلةو حاسمة إنتصروا فيها على أعدائهم ، فى الماضى البعيد و الحاضر القريب .. أولى هذه المعارك ، موقعة بدر الكبرى التى جرت فى 17 رمضان فى السنة الثانية للهجرة ، و كانت بين القلة المؤمنة من المسلمين و الكثرة من المشركين ، و كان أول نصر فى الإسلام على الكفر ، فقال تعالى:" و لقد نصركم الله ببدر و أنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون " و النصر الثانى الذى أحرزه المسلمون فى رمضان ، فتح مكة المكرمة الذى تم فى السنة الثانية من الهجرة ، و كانت أول مدينة تفتح سلما فى التاريخ ، و يعطى رسول الله الأمان لأهلها و يعفو عن أعدائه الذين حاربوه و حاولوا قتله ، فيقول لهم:" ماذا تظنون أنى فاعل بكم قالوا أخ كريم و ابن أخ كريم ، فيقول صلى الله عليه و سلم: إذهبوا فأنتم الطلقاء" و هو أول عفو عام يعطيه المنتصر لأعدائه ، و لم يعرف التاريخ له مثيلا حتى يومنا هذا ، و صف ذلك الحق فى محكم آياته فقال تعالى:" إذا جاء نصر الله و الفتح ..." (سورة النصر:1) .. أما النصر الثالث المبين الذى حققه المسلمون فى رمضان فهو فتح الأندلس عندما إنتصرت جيوشهم بقيادة طارق بن زياد على جيوش القوط تحت قيادة ملكهم لد دربك فى موقعة "شذونة" فى وادى لكه بالأندلس "أسبانيا" التى جرت فى 28 رمضان سنه 92 هـ و أضاء نور الإسلام تلك البلاد و أقام المسلمون هناك حضارة خالدة إستمرت ثمانية قرون ، تتلمذت أوروبا على علومها و فنونها و أدابها و كانت بمثابة حجر الأساس الذى بنيت عليه الحضارة الغربية الحديثة.. و كان النصر الرابع للمسلمين فى رمضان على جيوش المغول التى غزت البلاد الإسلامية فى آسيا و إستولت على بغداد و دمشق و هدمت ما بنى المسلمون من حضارة ، فتقدمت فتقدمت جيوش المسلمين فى مصر بقيادة السلطان المظفر سيف الدين قطز و إستطاعت أن تلحق بهم هزيمة منكرة فى موقعة عين جالوت فى 25 رمضان سنه 658هـ و كان هذا الإنتصار العظيم سببا فى حماية الحضارة فى أوروبا و عادت رايات الإسلام تخفق مرة أخرى على دمشق و بغداد و غيرهما من بلاد المسلمين.
و قد شهد رمضان أعظم إنتصار حققه المسلمون فى العصر الحديث ، عندما إقتحمت جيوشهم قناة السويس ، و هضبة الجولان لتحرير الأرض العربية من الإحتلال الإسرائيلى فى 10 رمضان 1393 هـ و إستطاعت أن تهزم الجيش الإسرائيلى و تحطم الأساطير الدعائية الكاذبة التى كانت تقال عن قوتهم ، و منذ ذلك النصر تواصل إسرائيل إنسحابها من الأراضى العربية و لم تستطع أن تواجه أى بلد عربى.
بقلم د. بكر مصباح تنيرة